يتناول البحث ((الديمقراطية)) ، تلك الكلمة التى تبدو بموسيقاها اللفظية الغربية وكأنها البلسم السحرى من شقاء العصر الحديث .
وتماما كما تفعم الرموز الإسلامية بذلك الجو الشرقى الأصيل ، والذى يبدو ساحرا ، بل وأسطوريا فى عيون البعض ، فإن الديمقراطية - ذلك الرمز الغربى - وقد تشبع بقيم الغرب يبدو مبهرا ، خاصة وقد اشتد وثاقه فى الأذهان بالرفاهية والتقدم ، والعلم ، والحرية على المستويات كافة .
الديمقراطية حكم الشعب أو سلطة الشعب هكذا تقضى به أصول اللغة اليونانية ، التى اشتق فيها هذا المصطلح ، وهكذا أراد أيضا مفكرو الغرب أن يصطلحوا على المعنى الدلالى له فى بواكير النهضة الأوربية ، ثم تطور المفهوم مع تطور مفهوم الأمة والشعب والدولة والسلطة والسيادة .
ونستطيع أن نطلق القول بأن القرن التاسع عشر هو القرن الذى تبلورت فيه النظريات الديمقراطية التقليدية ، ونضجت فيه إلى حد كبير التجارب السياسية فى دول الغرب المختلفة ، وخاصة العظمى منها .
كما أن ظهور العديد من القوى المجتمعية الجديدة كان حافزا قويا لدفع الديمقراطية إلى الأمام ، كطبقة التجار وأصحاب رؤوس الأموال ، والطبقة المتوسطة ... ، ثم ظهور مفهوم الدولة القومية .
ولا شك أن هناك العديد من النظريات التى ارتبطت ارتباطا وثيقا بالديمقراطية ، وكان لتلك النظريات كبير الأثر فى دعم الاتجاه الديمقراطى ، وبلورته فى صورة نظرية سياسية تبتغى الكمال .
ومن أهم تلك النظريات التى شكلت الخلفية الفكرية للديمقراطية : نظرية العقد الاجتماعى ، والتى كانت ثمرة الصراع حول سلطة الكنسية وسلطة الملك فى أوروبا ، حيث تحاول نظرية العقد الاجتماعى الجواب عن سبب خضوع الأفراد لسلطة الدولة ، وبررت ذلك بوجود عقد اجتماعى -وإن كان غير منظور - تأسست بمقتضاه السلطة فى المجتمع . وتلك النظرية التى قامت على أنقاض نظرية سابقة هى نظرية القانون الطبيعى ، والتى كانت تنادى بأن للإنسان حقوق طبيعية سابقة على وجود الدولة ، مما يؤكد القيمة المطلقة للإنسان .
وقد كان التطور الاقتصادى الغربى عاملا حاسما فى تطور الديمقراطية ، فقد صاحب هذا التطور الاقتصادى تطورٌ فى الفكر السياسى ، وتلقى كل منهما تأثيرا متبادلا من الآخر ، كما كان التطور الاقتصادى مؤيدا قويا للدولة القومية وقت ظهورها ، والتى ساعدت على المزيد من تطور الاقتصاد .
وكما هو شأن الأفكار الإنسانية فسرعان ما تجاوز مفكرو الغرب نظرية العقد الاجتماعى لإسرافها فى الخيال ، وبدأوا فى طرح أسس المذهب النفعى ، والذى يقوم على توخى المنفعة وتحقيق السعادة الفردية .
وقد قامت الديمقراطية على العديد من المبادئ أهمها : الحرية ، المساواة ، السعادة ، إعلاء الفردية ، التجريب والتطور ، سيادة طبقة الممولين ، الإرادة العامة ، فصل السلطات ، سيادة الشعب ، الحرية المدنية والاجتماعية ، العلاقة المتوازنة بين الحرية الفردية والسلطة العامة والمجتمع ، الإصلاح النيابى ، والتوازن بين طبقات المجتمع ، إذكاء الفضائل والعقل لدى الأفراد ، حرية العمل ، حرية الفكر .
وتبرز أزمة الديمقراطية المعاصرة فى عدم تحقيق كل ما كانت تطمع فيه الوصول إليه ، وخاصة الحرية السياسية الحقيقية للشعوب ، ولهذا قامت عدة محاولات لتطوير النظرية الديمقراطية وصولا إلى المشاركة الحقيقة للفرد فى الحكم واتخاذ القرار .
كما كانت للديمقراطية أزمتها الأخلاقية الحادة ، مع انهيار المُثُل والقيم المطلقة ليس على أرض الواقع وحسب ، بل أيضا على المستوى النظرى الفلسفى .
ومن جانب آخر يرى فريق من الباحثين المسلمين أن هناك تطابقا بين الإسلام والديمقراطية .
والحقيقة الكاملة أن هناك بينهما من التخالف مثل ما بينهما من التوافق ، بل يغلب الأولُ - فى اعتقادنا - على الثانى .
ومن هنا طرح البحث بعض النظرات النقدية حول الديمقراطية انطلاقا من خصوصية التجربة الديمقراطية الغربية ، وبما لا يتحتم معه تكرارها بذاتها فى غيرها من البلدان ، وإنما تنبع خصوصية التجربة من خصوصية الأصول الفكرية التاريخية للغرب ، واختلافه - أبعد ما يكون الاختلاف - عن الأصول الفكرية الإسلامية ، ومن هنا يأتى تأكيد البحث على التميز الإسلامى ، ووجوب الوعى به ، والمحافظة عليه .
ينبع هذا التميز الإسلامى من اختلاف المُثُل والأخلاق ، واختلاف المصدرية الفكرية ، وقد أثّر ذلك على المفاهيم السياسية الأساسية كالإرادة العامة والسلطان والدولة والسيادة ... .
كما نجح الإسلام فى تقديم صورة واضحة لتحقيق التوازن بين الفرد والمجتمع .
وبينما يقع الغرب أسير نفسه ، فأجاز لها الاستعلاء على غيره من الشعوب والحضارات ، يقف الإسلام شامخا بمساواته وعدالته .
ولهذا فإن الإسلام يطرح مفاهيم متفردة يتبلور من خلالها النظام الإسلامى فهناك مفهوم الدولة ، والشريعة ، والخلافة ، واستقلال التشريع ، والفصل بين السلطات .
كما يرى النظام الإسلامى أن الأمة هى المعبرة عن الإرادة الإلهية .
ومما يمتاز به النظام السياسى الإسلامى مفهوم السيادة ، حيث تكون السيادة للشريعة .
كما يمتاز النظام السياسى الإسلامى بخصوصية المصادر التشريعية الإلهية .
ويمثل الإجماع والالتزام بالقاعدة القيمية الإسلامية وبالمقاصد الشرعية أسس نظام الحكومة فى الإسلام .
ولهذا كانت للدولة فى الإسلام خصائصها المميزة ، كما أن لنظام الحكم فى الإسلام أسسه الخاصة من العبودية لله ، والعدل ، والعدالة ، والخلافة ، والتى تمثل لب النظام الإسلامى ، وأكثر أسسه المعبرة عن خصوصيته ، ولهذا فهناك الكثير من الفروق بين نظام الخلافة وبين نظام الديمقراطية .
ومن أسس نظام الحكم الإسلامى أيضا : الشورى ، حيث يرى البحث -تطابقا مع كثير من الآراء- لزوم الشورى ووجوبها .
ومن أسس نظام الحكم الإسلامى أيضا : المساواة ، والطاعة لأولى الأمر ، والالتزام بالشريعة الإسلامية ، والحرية ، ومسئولية أولى الأمر ، ووجوب الاستعانة بالأمناء ، والوحدة السياسية للأمة ، وكفالة الحقوق والواجبات ، وجوب مناصحة أولى الأمر .
وقد شرع الإسلام العديد من الوسائل لتحقيق ما قرره من نظم ، والوصول إلى ما أسسه من مبادئ : كوجود تشريع إلهى مهيمن ، والاعتراف بحقوق الفرد ، والفصل بين السلطات ، ومسئولية الحاكم وإخضاعه لرقابة القضاء .
ومن هنا قدم الإسلام نسقا متكاملا للنظام السياسى ، بدء من الأسس الفكرية الراسخة ، وانتهاء بالوسائل المحققة لنظامه .
وقد تناولنا فى هذا البحث نظرية الديمقراطية ، حيث تناولنا أصولها اللغوية ، وانعكاس المعنى اللغوى على المعنى الاصطلاحى ، ثم تناولنا تاريخ الديمقراطية فى العصر الحديث ، ومن أين بدأت ، وكيف تطورت ، وإلى ماذا انتهت إليه ، وما هى أهم النظريات التى انبنت عليها الديمقراطية كنظرية القانون الطبيعى ، ونظرية العقد الاجتماعى ، والنفعية ، مبينين ملامح العصر التى ظهرت فيه ، والتطور السياسى الذى أدى إليها ، كما تناولنا التطور الاقتصادى وأثره فى تطور جذور الديمقراطية .
ثم كانت لنا وقفة خاصة مع الديمقراطية : النظرية -المبادئ -الوسائل والغايات ، فتكلمنا عن أهم مبادئ التى ساهمت فى تطور المسيرة الديمقراطية ، ووسائل وغايات الديمقراطية .
ثم أشرنا إلى أزمة الديمقراطية المعاصرة ووقوفها على مفترق الطرق ، موضحين المفارقة بين النظرية والتطبيق ، وأن مفكرى الغرب يحاولون الآن طرح بدائل للديمقراطية التقليدية ، فيما عرف باسم نظرية النخب الديمقراطية .
ثم يأتى بعد ذلك أهم موضوعات البحث ، وهو نقد نظرية الدميقراطية ، وخاصة من وجهة النظر الإسلامية ، منبهين على الخصوصية المتميزة للفكر والحضارة والإسلامية ، وأن ما أتت به الديمقراطية من حسنات ليس بمبرر كاف لإلصاق الإسلام بها ، أو إلصاقها بالإسلام ، وأنه بقدر ما هناك من أوجه تشابه بين الديمقراطية ونظام الحكم فى الإسلام ، بقدر ما هناك أوجه اختلاف وتميز ، بل لعل هذه الأخيرة أن تكون أكثر .
ومن هنا وقفنا بقوة أمام أهم الإشكاليات التى لا بد أن تراعى عند الخوض فى نقد الديمقراطية وبيان مدى قربها أو بعدها من النظام الإسلامى .
ومن بين القضايا التى تناولنها : إشكالية الخصوصية - إشكالية الأصول الفكرية والتاريخية - إشكالية التميز الإسلامى - إشكالية المثل والأخلاق - إشكالية المصدرية : الإرادة العامة / السلطان / الدولة - إشكالية الفرد والمجتمع - رسالة الرجل الأبيض الإنسان فى ظل المادية - إشكال السيادة .
ثم انتقلنا من هذا إلى بيان خصائص النظام الإسلامى ، ومفهوم الدولة الإسلامية ، وخصائصها ، كما تحدثنا عن أسس نظام الحكم فى الإسلام .
ومن هذا العرض يظهر لنا بجلاء سعة الفارق بين النظرية السياسية المبنية على أسس الحضارة الغربية ، والنظرية السياسية المبنية على أسس الحضارة الإسلامية ، رغم حاجتنا الماسة إلى مزيد من البحوث والدراسات التى تتناول كافة عناصر وجوانب النظرية السياسية من منطلق إسلامى ، توصلا إلى وضع نظرية متكاملة تقدم البديل الصحيح لما نحن فيه من أزمة .
والله من وراء القصد .
اركان الديمقراطية : صور الديمقراطية
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق