منطلق السؤال عائد إلى أن صفة "كسالى" هي واحدة من الصفات السلبيّة المتعدّدة التي حملتها صورة العرب والمسلمين في المخيال الغربي أساساً نتيجة الأيديولوجية الاستشراقيّة التي جعلت من الغرب والشرق العربي والإسلامي كتلتين لا تلتقيان. حتّى أن جانباً من المخيال العربي الإسلامي قد تبنّى هذه الصورة المغلوطة، معيداً إنتاجها عن ذاته.
والواقع أن مفهوم العمل نفسه قد خضع للتغيير بحسب الشروط التاريخية الاجتماعية المختلفة. فالعمل كقيمة عند الإغريق كان يعني العبودية، فيما التحرّر منه بمثابة امتياز كبير. أما مع الأديان التوحيدية، فبات العمل قيمة مباركة، ودواء ضدّ التعطّل أو التبطّل. فاعتبر توما الإكويني مثلاً، أن العمل إجباريّ حتّى في الأديرة، لأنه علاج ليس ضدّ التبطّل فقط، بل ضدّ شهوات الجسد أيضاً.
أما في الإسلام فالعامل هو عابد لله، لأن العمل نفسه عبادة. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (لأن يأخذ أحدكم حبله، ثم يغدو إلى الجبل فيحتطب، فيبيع فيأكل ويتصدق، خير له من أن يسأل الناس). وعن أنس رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن قامت الساعة و في يد أحدكم فسيلة، فإن استطاع أن لا تقوم حتى فليغرسها".
غير أن التحليل الاستشراقي العصبوي خلع تلك القيمة العليا للعمل عن الثقافة العربية والإسلامية، شأنه في ذلك شأن سائر ما خلعه عنها، محوّلاً العرب والمسلمين إلى كتلة جامدة متشابهة سماتها الهمجية والذهنية المحدودة والكسل وما شابه من سمات سلبيّة.
ماذا يقول الفكر العلمي؟
لقد عمد بعض المفكرين العقلانيّين مقابل ذلك، ومن بينهم مستشرقون استندوا إلى الفكر العلمي، إلى نقض هذا التنميط. من هؤلاء مكسيم رودنسون الذي دافع عن العقلانية الموجودة في الإسلام، والتي كانت النظرة الاستشراقية قد نفت وجودها فيه لتبرّر تخلّف العرب والمسلمين عن الّلحاق بالغرب، وعن تكوّن مسار رأسمالي في مجتمعاتهم. ففي كتابه الشهير "الإسلام والرأسمالية" الصادر في العام 1967، وفي سياق تفنيده لهذه الأحكام المسبقة، اعتمد رودنسون في تحليله المنهجي على عدد من المقولات، ومنها أن الإسلام أباح الملكية الخاصة والأجر وأن الحضارة الإسلامية شهدت بدايات تكوّن رأسمال مالي وتجاري، أي وجود نشاط رأسمالي على صعيد الإنتاج الموجّه بجزء منه إلى السوق. وعن حثّ الإسلام على العمل، يدافع رودنسون مستنداً إلى أن الّله "يعد بتكوين المعونة، ويقدّمها فعلاً، وأنها عامل جوهري في النصر، ولكنها لا تعفي الإنسان أبداً من أن يكافح بما بين يديه من وسائل إنسانية". وعن النصوص المتعلقة بالقضاء والقدر يقول إن هذه النصوص في الديانتين اليهودية والمسيحية تكفي للبرهان على أنه "لو وجدت نزعة نامية إلى الجبرية واللاعمل، لعثرتَ في الكتب المقدسة لهذين الدينين على مصادر تبرّر موقفها، تساوي إذا لم تفق مثيلتها في الإسلام". في المقابل نفى ماكس فيبر إعاقة الإسلام للتطوّر الرأسمالي في العالم الإسلامي، وردّ على الزعم بأن منع الربا في العقيدة الإسلامية قد أعاق التطوّر الرأسمالي في العالم الإسلامي، كما ردّ على مقولة دور عقلانية القانون الروماني في إيجاد النظام الرأسمالي ، بأن هذه العقلانية جاءت نتيجة وليست سبباً. أما عمّا يتعلق بافتقاد روح المبادرة عند مسلمي العصور الوسطى، فقد ردّ رودنسون بأن الإسلام يدفع إلى العمل ويضفي عليه قدسية...وبالتالي، هذا غيض من فيض ما استند إليه أصحاب المناهج العلمية في تفكيك المقولات الاستشراقيّة، وفي دحض مقولة أن العرب والمسلمين يفتقرون إلى روح المبادرة وأنهم كسولون بالفطرة.
هل من كسل بالفطرة؟
السؤال الذي ينبغي أن يطرح ليس في ما إذا كان العرب كسالى، لأن هكذا سؤال يشجّع اقتران مثل هذه الصفة أو غيرها بالفطرة، بل لعلّ الأجدى التساؤل ما إذا كانت هناك أسباب جعلتهم متخلفين عن الغرب؟ وربما أنه من الأجدى كذلك، عند مقاربة أسباب الإقبال الكبير على العمل لدى الغربيّين مقارنةً بالعرب والمسلمين، وهو إقبال يُترجم بالنموّ الاقتصادي ومستوى رفاه الفرد وغيرها من المؤشرات، ربما كان من الأجدى تأمل حوافز العمل نفسها. إذ إن هذه الحوافز المرتبطة بسياقها الاقتصادي الاجتماعي تظهر أن ليس هناك من أمة تعمل أو أخرى لا تعمل، خصوصاً أن هذه الحوافز نفسها غير ثابتة أو أبديّة. فالحافز يقوم على معادلة رياضية اعتبر فيها الخبراء قوة الحافز على العمل( La force de la motivation au travail ) أي (m) محصلةً لمجموع النتائج المنتظرة من العمل نفسه في وظيفة معيّنة(A) مضروبة بالتكافؤ(v). أيّ أن الحافز يتحدّد من خلال A)) بوصفها ما ننتظره من العمل أو توقعاتنا منه، ومن خلال(V) بوصفها استحسان العمل وأهميته والتكافؤ الكبير إلى حدّ ما مع التوقعات. والجواب لا يكون كافياً في حال جاء نتيجة دراسة الأفراد(أي على المستوى النفسي)، أو نتيجة علاقة هؤلاء بمحيط العمل أو المجتمع(أي على الصعيد النفس اجتماعي) فقط، بل لا بدّ من أن يأتي من مقاربة اجتماعيّة شاملة. بحيث يمكننا أن نلاحظ أن حافز العمل نفسه خضع للتغييرات على مراحل تاريخية مختلفة. ففي المرحلة التايلوريّة التي سادت في نهاية القرن التاسع عشر مع فريدريك تايلور طغى التنظيم العلمي للعمل الذي استغّلت فيه أدوات العمل إلى الحدّ الأقصى، في موازاة التخصّص الدقيق وإلغاء كلّ الحركات غير المفيدة لإتمام العمل، وهو النموذج الذي ساد في المصانع الأميركية، وقام على مبدأ أساسي وهو المكافأة المالية التي تكون بحسب المبادرة الفردية للشخص، ما يعني أن المكافأة المالية شكّلت الحافز الأساسي للعمل. تلا ذلك تغيّر في حافز العمل نتيجة التأثر بمدرسة العلاقات الإنسانية مع باحثين مثل مورغان وغاردنر وروجر ممّن اهتموا بدراسة السلوك التنظيمي في المؤسّسة، وتوصلوا من خلال أبحاثهم إلى أهمية العلاقات الإنسانية داخل المؤسّسة وارتفاع الإنتاج. فبرزت هذه العلاقات كحافز أساسي للعمل والإنتاجية.
وماذا عن البلدان العربيّة؟
أما في غالبيّة البلدان العربيّة، ونتيجة عدم انتظام القطاع الخاص بطريقة قانونية متقدّمة أسوة بالبلدان المتقدمة، فإن حوافز العمل لدى المستخدم العربي عموماً، خضعت سلباً، وسواء بطريقة مباشرة أم غير مباشرة لهذا الخلل الناتج أساساً عن سلسلة اختلالات بنيوية تعتري بنى الدول العربيّة ومجتمعاتها. من ذلك مثلاً، وبحسب "تقرير التنمية الإنسانية العربيّة للعام 2009: تحديات أمن الإنسان في البلدان العربيّة"، أن أصحاب الأعمال لم يذهبوا أبعد من كونهم شركاء ثانويّين في بيروقراطية الدولة، خصوصاً مع سيطرة الدول العربية على الحياة الاقتصادية سيطرةً لا تضاهيها فيها أغلب الدول النامية. إذ ينبثق الجانب الأكبر من هذه السيطرة من النفط، الذي تذهب عائداته إلى الحكومة في البلدان العربية المصدّرة للبترول، فضلاً عن الحجم الكبير للقطاع العام في عدد من الدول العربية، مثل الجزائر والسودان وليبيا ومصر، والذي جعل هذا القطع يستمّر في أداء دور مؤثّر في الحياة الاقتصادية. وللتأكيد على ذلك، أشار التقرير إلى أن حجم العائدات الحكومية بالنسبة إلى الناتج المحلي الإجمالي في بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أعلى بكثير منه في بلدان الجنوب على العموم، إذ بلغ 25.6 % في العام 2005 و13 % في البلدان المنخفضة الدخل. في حين بلغ هذا المعدل الذروة في الدول الأعضاء في منظمة أوبك في العام 2005، بحيث وصل إلى68.04 % في ليبيا و48.62 % في السعودية، وإلى نحو 40 % أو أقلّ قليلاً في الجزائر، وعمان، وقطر والكويت، وراوح بين الثلث وأقلّ من الخُمس في البلدان العربية الأخرى، وبلغ حدّه الأدنى في السودان 17.84 %. بحيث يؤدي هذا النوع من الاقتصاد السياسي إلى تعزيز سيطرة الحكومة على القطاع الخاص في معظم البلدان العربية.
إن هذه الاختلالات وما شابه تتغلغل عمودياً في مختلف قطاعات العمل العامة والخاصة، إذ يُلاحظ وجود تناقض واضح بين مصالح كلّ من مجموعة العمال ومجموعة الإداريين، فضلاً عن اتّجاه واقع التفاعل الاجتماعي للأفراد والجماعات في العمل إلى التصارع والتنافس ومحاولة السيطرة والتسلط، فضلاً عن خضوع الحوافز والمكافآت المادية وغير المادية إلى اعتبارات شخصيّة... وما شابه من ممارسات إدارية متخلّفة، تنعكس سلبياً على العنصر البشري في الوطن العربي بعامة. وبالتالي، ألا يغدو أيّ تفسير للسلوك الإنساني في تنظيمات العمل، ومن بينها "الكسل" أو "النشاط"، سؤالاً خاطئاً وحتى غير علميّ، لكونه لا يستدعي أولاً دراسة الحوافز الموجودة في بيئة العمل، ولا يرصد ثانياً هذه الحوافز انطلاقاً من خصوصيتها البنيويّة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق