تعريف الحضارة
الحضارة الصينية
بالرغم من تلك التأثيرات الأجنبية إذاً، كان المثقفون الصينيون في أزمنة الهان يعتبرون بلدهم مركز العالم ومقر الحضارة الحقة، ولاريب أن هذه الثقة بحضارتهم هي من أسباب لامبالاتهم بما كان يجري في البلاد الأخرى، إلا أن هناك أسباباً غير هذه، منها بُعد أرض الصين عن الحضارات الأخرى، الذي كان دوماً عاملاً هاماً أمن للصين الحماية من تخريب القوى الخارجية، ولكنه في الوقت نفسه جعل تجاربها الثقافية ضيقة ومحدودة وحكامها قليلي الاهتمام بالعالم الخارجي. كما أن الصين كانت مكتفية بذاتها من الناحيتين الاقتصادية والتقنية، فهي غنية بالموارد الطبيعية كما كانت زراعتها وتقنيتها في عصرالهان قادرتين على استغلال بيئتها استغلالاً ناجحاً، والحقيقة أنه لم يكن هناك في العلام بلد أكثر منها تطوراً. إن آخر الأشياء الجديدة التي أتتها من الخارج قبل الأزمنة الحديثة إنما هو نبات الأرز، وقد دخلها في عصور قديمة جداً إما من جنوب شرقي آسيا أو من الهند.
وأتت حقبة الهان بمزيد من التطورات والابتكارات، فقد صنع علماء الهان أول بوصلة مغناطيسية وكان لها قرص مدرج وإبرة ولكنها لم تكن تستخدم للإبحار بل لتوجيه المعابد توجيهاً صحيحاً عند بناءها. كما ابتكروا أول طريقة لرسم الخرائط على أساس شبكة من الخطوط المتقاطعة، واخترعوا آلات لتسجيل الزلازل وأدوات للحرفيين لقياس سماكة الأشياء ذات تدريجات عشرية. إلا أنك عندما تستعرض اليوم ابتكارات تلك المرحلة فإن أكثر ما يبهرك بينها هو اكتشاف الصينيين لطريقة صنع الورق، التي أعلن عنها في ورشات الإمبراطور في عام 105 للميلاد وسوف تكون أهمية هذا الاختراع عظيمة جداً للجنس البشري بأكمله، ولو أن طريقة صنعه لم تصل إلى الغرب إلا بعد قرون عديدة. لقد كان الورق أرخص من ورق البردي والرق، ولو أنه أسرع بلاء من الأخير كما أنه أسهل صنعاً.
وقد تحسن النقل أيضاً خلال أزمنة الهان وتحسنت معه المواصلات، فظهرت في القرن الأول ق.م الدفة المثبتة بمؤخرة السفينة لتوجيهها بدلاً من المجداف الكبير المتدلي من أحد طرفيها، ولم تعرف السفن الأوربية هذه الدفعة إلا بعد حوالي اثني عشر قرناً، وعلى عهد سلالة الهان السابقة ظهرت أيضاً عدة الحصان التي تغطي صدره، فصار بالإمكان جر أحمال أثقل بكثير من السابق. وبعد نهاية السلالة بقليل سوف يبدأ الصينيون باستعمال الركاب، وهو اختراع ذو أهمية كبيرة في الحرب لأنه يعطي الفارس مقداراً أكبر من الأمان والسيطرة على فرسه، أما النشابية، وهي قوس مثبتة على هيكل خشبي ذي أخاديد تستخدم لتوجيه السهام، فقد اخترعت على عهد الهان، وكانت انجازاً تقنياً هاماً جداً لأنها أقوى من أقواس البرابرة وأكثر دقة منها، وكان البرابرة عاجزين عن تقليدها إذ لم يكن أحد غير الصينيين يعرف طريق صنع الأقفال البرونزية اللازمة لها.
إن هذه الاختراعات كلها شواهد على غنى حضارة الهان، وقد كانت تلك بداية حقبة مجيدة، لأن علوم الصينيين ورياضياتهم سوف تنتج خلال الألف سنة التالية فيضاً من الأفكار الجديدة هو أغزر بكثير مما ظهر في أوروبا. ويبدو أن حياة الحكام والأغنياء في الصين على عهد الهان كانت حياة رائعة، وأنها عرفت الكثير من الأشياء المبتكرة الجميلة والمصنوعة من الحرير والخشب الملون، ولو أن أكثرها قد هلكت. وعندما ابتدأ إحراق القصور خلال العقود المضطربة الأخيرة من عمر السلالة ضاعت مجموعات فنية لاتقدر بثمن. ولكن بالرغم من هذا بقي مقدار كبير من المصنوعات الجميلة لأن الهانكانوا يدفنون الأغنياء والنبلاء مع الكثير من مقتنياتهم أو مع نماذج لها، وقد تم مؤخراً اكتشاف هام لبدلات متقنة الصنع من حجر اليشب دفن فيها أميرة وأمير من سلالةالهان. وتجد على عهد سلالة الهان اللاحقة أن المصنوعات البرونزية، وبالأخص تماثيل الأحصنة، تدل على تطور جديد في فن سبك البرونز، وهو واحد من أقدم الفنون في الصين، كما كان الخزافون يبتكرون أصنافاً جديدة من الميناء الملونة لأعمالهم الخزفية البديعة.
يدل الفن في عهد الهان إذاً على أن الحضارة الصينية كانت تنظر إلى الماضي وليس إلى المستقبل، وإن هذه الحقيقة لتصح على حياة الفكر أيضاً، فعلى عهد الهان ابتدأ العلماء بتدوين تواريخ السلالات، عندما وضع سو ما تشين أعظم مؤرخي الصين كتابه ”سجلات تاريخية”، وهو عمل يقدره المختصون بهذه الأمور تقديراً عالياً. إلا أن أهم التطورات التي حصلت في أزمنة الهان إنما هو ترسيخ العقيدة الكونفوشيةكإيديولوجية رسمية للدولة، وكان هذا انتصاراً لتعاليم ذلك الرجل الحكيم أو ما اعتبر تعاليمه، لقد أراد العلماء أن يصلحوا الأضرار الجسيمة التي حلت بالصين ومكتباتها منذ عهد التسين، إذ كانوا قد تعرضوا لأزمة بشعة وإهانة عميقة في عام 213 ق.م عندما انقلب الإمبراطور على منتقدي نظامه العسكري الاستبدادي، فأحرق الكتب جميعها ولم يبق إلا على الأعمال المفيدة في العرافة (التنبؤ بالغيب) والطب والزراعة والكتب التي تمجد السلالة، وقد هلك أكثر من أربعمائة عالم في ذلك الاضطهاد. أما الآن فقد أعادالهان اكتشاف النصوص الكونفوشية التي ضاعت على عهد التسين. كان أباطرةالهان راغبين بمصالحة المثقفين إذاً، ولو أن جوهر هذا التحول ليس واضحاً، فأعادوا منصب الأستذة في الدراسات الكونفوشية، وأمروا بتقديم القرابين بانتظاملكونفوشيوس في كافة المدارس الحكومية، وبدؤوا يتقبلون المتقدمين للخدمة المدنية على أساس الامتحان في الأعمال الكونفوشية الكلاسيكية. وقد أدت هذه الأمور كلها إلى تحويل العقيدة الكونفوشية إلى عقيدة رسمية ذات عمر مديد، وضعت نصوصها الأساسية بعد عام 200ق.م بقليل، وظلت من بعدها تتمثل العناصر الفكرية من مدارس أخرى، ولكن مبادئها الأخلاقية بقيت منذ ذلك الحين هي المسيطرة في الفلسفة التي سوف تشكل حكام الصين في المستقبل. وفي عام 58 م أمر بتقديم القرابينلكونفوشيوس في كافة المدارس الحكومية، وأخيراً باتت المناصب الرسمية على عهدالتانغ محصورة بالذين تدربوا على تعاليمه، وقد مدت الكونفوشية حكام الصين طوال أكثر من ألف سنة بمجموعة من المبادئ الأخلاقية وبثقافة أدبية تكتسب بالاستظهار العنيد، فنشأت بهذا طبقة إدارية هي من أكثر الإدارات التي عرفها العالم حتى اليوم فعالية وتجانساً إيديولجياً.
إلا أن تأييد العلماء لم يكن كافياً لضمان استمرار سلالة الهان، لأنها واجهت تحديات داخلية وخارجية شديدة، كان أخطرها ثورات الفلاحين المتتالية، إذ تزايد عدد السكان فصار الكثيرون من الفلاحين بلا أرض وغير قادرين على إيجاد المال اللازم لدفع الضرائب وتأمين الطعام، وفي الوقت نفسه عاد البرابرة يهاجمون البلاد من الخارج، وراح القادة المهيمنين على الجيش يغتصبون السلطة في الأراضي التي يسيطرون عليها. أما البرابرة الذين سمح لهم بدخول الحدود على أمل تعليمهم أساليب الحياة الصينية فقد انقلبوا على الذين أدخلوهم أصلاً، وفي عام 221 م تخلى آخر أباطرة الهان عن عرشه لابن أكبر القادة العسكريين، فعادت الصين لتتفكك من جديد.
لقد ضاع الكثير من تراث ثقافة الهان البديعة وخرب خلال القرنين الرابع والخامس عندما عاد البرابرة لمضايقة الحدود، وتفككت الصين مرة ثانية إلى مجموعة من الممالك كان بعضها تحت حكم سلالات بربرية، ولكن قدرة الصين العجيبة على امتصاص الثقافات الأجنبية تظهر بوضوح حتى خلال هذه الأزمة الكبيرة.
واجتذبت أساليب الحياة في الصين البرابرة رويداً رويداً، فخسروا هويتهم واتخذوا لباس الصينيين ولغتهم، وأصبحوا شعباً جديداً من شعوب هذا البلد، والحقيقة أن مكانة الحضارة الصينية بين شعوب آسيا الوسطى كانت عظيمة، وكان جيرانها غير المتحضرين يميلون إلى اعتبارها مركز العالم وقمة الثقافة، مثلما كانت الشعوب الجرمانية في الغرب تنظر إلى روما، بل إن أحد حكام التتر قد فرض عادات الصين ولباسها على شعبه فرضاً بمرسوم أصدره في عام 500م. إلا أن خطر آسيا الوسطى ظل قائماً وراء الحدود، كما ظهرت في القرن الخامس أول إمبراطورية مغولية في منغوليا. ولكن وحدة الصين لم تكن في خطر كبير عندما استلمت سلالة التانغ الشمالية التفويض السماوي في عام 618، ولم يكن الانقسام والغزوات البربرية قد خربت أسس حضارتها التي دخلت عصرها الكلاسيكي.
كانت ثقافة الصين في عهد التانغ مرتبطة ارتباطاً وثيقاً بمؤسساتها، وكان الصينيون يعتبرون أن العائلة والدولة هما المصدران الوحيدان للسلطة، ولم تتعرض هاتان المؤسستان لتحد يذكر لأن الصين لم تعرف كيانات مثل الكنيسة أو النقابات التي ظهرت في أوروبا حيث أثارت الأسئلة حول مواضيع الحق والحكم وأعطت ثمارها الغنية. لقد كانت الملامح الأساسية للدولة الصينية قائمة منذ عهد التانغ، وسوف تستمر حتى القرن العشرين وتستمر معها نظرتها ومواقفها المميزة لها، وكان لجهود الهان الكبيرة في تماسك الدولة وتدعيمها دور كبير في صنع تلك المواقف، أما منصب الإمبراطور كحامل للتفويض السماوي فقد كان راسخاً منذ أيام التسين، والحقيقة أن مكانته لم تتزعزع رغم تبدل السلالات، لأن تلك التبدلات كانت تفسر دوماً بانتقال التفويض السماوي إلى أيدٍ جديدة ، بل إن السلطة الكامنة في مكانة الإمبراطور كانت تنمو بصورة مستمرة. فبعد أن كان في البدء زعيماً إقطاعياً كبيراً سلطته امتداد لسلطة العائلة أو العزبة تطور رويداً رويداً حتى صار حاكماً يرأس دولة مركزية ذات طبقة إدارية كبيرة، وكان هذا التطور قد ابتدأ منذ زمن بعيد، فلو لم تكن الدولة قوية لما تمكنت من تنظيم تلك الأعداد الكبيرة من البشر على عهد أول أباطرة التسين من أجل ربط أجزاء السور العظيم وبناء حاجز متصل منها ضد البرابرة يربو طوله على 2000 كم، وتقول الأسطورة إن هذا الإنجاز قد كلف حياة مليون شخص، وقد تمكن أباطرة الهان من فرض احتكارهم لسك النقود ووحدوا العملة، وعلى عهدهم تم تأسيس الخدمة المدنية أيضاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق